قرأت هذه الكلمة في الكثير من الكتب ولا أعرف ماذا تعني بالتحديد وهي ( فقه الواقع)، فهل هي محاولة للتجديد في الفكر الإسلامي أو الاتصال بالواقع أم ماذا تعني ومن هم أصحاب هذا الاتجاه ؟
الجواب :
فقه الواقع : هذا المصطلح مكون من كلمتين :
الأولى : فقه : والفقه معناه الفهم والإدراك والعلم، كما في قوله تعالى : { [color=green]وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء:44 ] ، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس : ( [color:428b=maroon:428b]اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) .
الثانية : الواقع : وهي كلمة يحتاج بيان معناها إلى الإضافة، والمراد الأمر الواقع : أي الحادث والحاصل، والمعنى المقصود: ما يجدّ من أحداث ووقائع .
والتركيب ( فقه الواقع ) معناه : فهم الأمور الحادثة الواقائع النازلة .
ومن الناحية الاصطلاحية صار هذا التركيب له دلالة خاصة تجمع بين الفقه بمعناه لعام وهو الفهم، ومعناه الخاص المتعلق بمعرفة الأحكام الشرعية من الأدلة النصية، وإذا أضيف إلى الواقع أصبح المراد:" فهم النوازل والمتغيرات الجديدة في الحياة والأفراد والمجتمعات وتصورها معرفة حكمها في الشريعة الإسلامية "
ويعتبر المصطلح مهماً لعدة أسباب :
1- أهمية اليقين بلزوم تحكيم الشريعة في سائر جوانب الحياة وجميع نشاطات المسلمين .
2- التأكيد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان في سماحة ويسر .
3- تحقيق المعاصر الإيجابية المرتبطة بالأصول الثوابت، والمستوعبة للمستجدات والنوازل.
4- التأكيد على مراعاة اختلاف الأحوال والظروف والأوصاف والأحكام .
وقد كثر استخدام هذا المصطلح وتجاذبه الآراء، وظهرت مدارس مختلفة في تصوره وتطبيقه، وعلى كلٍ فإننا إذا أردنا فهم المستجدات وفق تصور إسلامي ثم معرفة ميزانها وأحكامها في الشريعة فإنه لا بد من توفر ثلاثة مداخل :
المدخل الأول : المدخل الاعتقادي :
لابد من الاعتقاد الجازم بأساسين مهمين هما :
(أ) كمال الإسلام : قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } .
قال السعدي: " { اليوم أكملت لكم دينكم } بتمام النصر، وتكمل الشرائع،الظاهرة والباطنة،الأصول والفروع،ولهذا كان الكتاب والسنة،كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وصوله وفروعه " . [ تفسير السعدي2/242 ] .
وقال سيد قطب : " فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معاً،فهذا هو الدين.. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصاً يستدعي الإكمال، ولا قصوراً يستدعي الإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير.. وإلا فما هو بمؤمن، وما هو بمقر بصدق الله، وماهو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين، إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان، لأنها –بشهادة الله- شريعة الدين الذي جاء "للإنسان" في كل زمان وفي كل مكان، لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات، الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي، والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان، دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من إطار الإيمان،والله الذي خلق الإنسان ويعلم من خلق، هو الذي رضي له هذا الدين، المحتوى على هذه الشريعة، فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان وبأطوار الإنسان " . [ في ظلال القرآن2/843 ] .
قال ابن القيم :" إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها " [ إعلام الموقعين 3/3 ] .
(ب) شمول الإسلام: قال تعالى: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } .
قال القرطبي : " أي ما تركنا شيئاً من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يُتَلقى بيانها من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من الإجماع أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال تعالى: { [color=green]ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } وقال : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم } وقال : { [color:428b=green:428b]وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فأجمل في هذه الآية وآية النحل ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره إما تفصيلاً وإما تأصيلاً ". [ تفسير القرطبي 6/420 ] .
وقال السعدي : " وقوله تعالى: { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } في أصول الدين وفروعه وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه أتم تبيين، بألفاظ واضحة ومعان جلية " . [ تفسير السعدي4/230 ]
المدخل الثاني : المدخل الفقهي :
(أ) أصول الفقه وقواعد الاستنباط :
إن كمال الإسلام وشموليته لجوانب الحياة المختلفة لا يعني أن أدلته من القرآن والسنة تتناول جميع التفاصيل وتستوعب كل الصور والأحوال، وهذا غير متصور، ولكن أصول الفقه علم كامل فيه أسس الاجتهاد وضوابط القياس وهو معرفة أدلة الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد (التصورات الأولية للمبادئ الأصولية ص16)، وفي أصول الفقه نقف مع الأدلة من حيث ثبوتها وحجيتها ودلالتها، وفيه الاستفادة من الأدلة بمعرفة طرق الاستنباط، وأحوال النصوص، وتعارض الأدلة، وأما حال المستفيد فالمراد به معرفة الاجتهاد وشروطه ونحو ذلك(التصورات الأولية للمبادئ الأصولية ص17-18)، ومن فوائده ( التمكن من معرفة الحكم الشرعي للحوادث والقضايا والأفعال التي تستجد بحسب الزمان والمكان (التصورات الأولية للمبادئ الأصولية ص20) .
فما لم يرد نصاً من القرآن والسنة فقد يؤخذ الحكم قياساً على أحكام وردت فيها، وقد يكون في المسألة إجماع ونحو ذلك، بحيث لا تنـزل نازلة ولا تكون حاجة إلا ويمكن من خلال الأدلة والأصول الوصول إلى حكمها.
(ب) المقاصد الشرعية والقواعد الفقهية:
إن الأحكام والتشريعات لها أهداف وغايات، والغايات الكبرى عامل مشترك لكثير من الأحكام، ومن ثم سميت بالمقاصد الشرعية، وهي : وهي المعاني الغائية التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه . (قواعد المقاصد ص47)، وقال الشاطبي :" الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قُصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها" . ( الموافقات 2/385).
كما أن الأحكام التفصيلية في دائرة معينة يمكن أن تندرج تحت قاعدة كلية تعبّر عن الأساس الذي تضمنه الحكم، ومن ثم سميت بالقواعد الفقهية، والقاعدة الفقهية هي قضية شرعية عملية كلية يُتعَرفُ منها أحكام جزئياتها . (القواعد الفقهية ص53).
ومن خلال فهم المقاصد ومعرفة القواعد مع ما سلف من العلم بأصول الاجتهاد والاستنباط، تتشكل الآلية العملية المستمرة القادرة على استيعاب المستجدات والتعامل معها وإعطائها الأحكام الشرعية المناسبة .