بالحضرة! وهذا الفهم إما يحصل بأمر عادي من قرائن أحوال،وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد،ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ،ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقي إليه... وقد قال عمر بن الخطاب (وافقت ربي في ثلاث) وهي من فوائد مجالسة العلماء ! إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم ،ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم ،وتأدبهم معه،واقتدائهم به، فهذا الطريق نافع على كل تقدير ) فتأمل رعاك الله ! (الموافقات1 45)
وهذا بالتجربة ثابتٌ وملاحظ، فالطالب قد يأتي للدرس عند أستاذه في مسألة علمية ، يظن أنه فهمها وأن المسألة لا تحتمل من التأويل والبيان غير ما توصل إليه ،ثم بعد عرضها ومدارستها ،يظهر في الغالب الآتي: إما أنه لم يفهم المسألة أصلاً ولم يوفق لمعرفة المراد، أو أن فهمه لها كان ناقصاً بحيث أنه فهم شيئاً وغابت عنه أشياء، وكما ذكر العلماء: أن فهم الإنسان للمراد من النص الشرعي ،لا يخلو من ثلاثة أحوال: أن يكون فهمه أعم من المراد أو أخص أو مطابق.
ويذكرني ذلك بعرض الصديق أبي بكر رضي الله عنه لتأويله لرؤيا ذلك الصحابي على رسول الله الإمام والمعلم ، فأقر على ما أصاب ونبهه على ما غاب، قال صلى الله عليه وسلم
« أصبت بعضا وأخطأت بعض » البخاري ، كتاب التعبير حديث رقم(7046)
وتأمل بالله عليك ، قصة عمر الفاروق أعلم الناس بعد رسول الله وأبي بكر كيف فهم ذلك الفهم في "صلح الحديبية" الذي قاده إلى أن راجع رسول الله وجادله في أمرٍ عزم عليه (وهو رسول الله)!
قال: يا رسول الله ألسنا على حق، وهم على باطل؟ قال: بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال "بلى" قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال رسول الله مبيناً ومطمئنناً:
« يا ابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً » ثم ذهب إلى أبي بكر فقال له أبو بكر "إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً" وبعد هذا البيان ذهب ما أشكل عليه رضي الله عنه ولاح له الصواب ، والقصة في البخاري "حديث رقم3182. قال الإمام الشاطبي معلقاً" (فهذا من فوائد الملازمة ، والانقياد للعلماء،والصبر عليهم في مواطن الإشكال..)! الموافقات 1 43
وهل يكب الشباب في الخطأ إلا تزكية الرأي المجرد ، والثقة به ، دون عرضه على العلماء أو حتى النظر الدقيق في كلام أهل العلم في بطون الكتب ومنابت الفكر!
ومن المعلوم عند أهل العلم من الأصوليين والفقهاء أن النصوص الشرعية من كتابٍ وسنة،ليست على درجةٍ واحدة من حيث وضوح دلالتها على المعنى ، ومعرفة ذلك لا يكون إلا لمن درس مناهج العلماء التي رسموها لمعرفة كيفية استنباط الأحكام واستخلاص المعاني من النصوص، وهي مناهج وقواعد علمية وضعت لتفسير النصوص مستخلصة بدقة من قواعد اللغة ومفهومات الشريعة ومقاصدها ،وذلك كله تحقيقاً لقول الله :
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم النساء : 83. والمراد بتفسير النصوص (بيان معاني الألفاظ ودلالاتها على الأحكام للعمل بالنص على وضع يفهم من النص) أنظر: تفسير النصوص د.محمد أديب (1/59)
والنص الشرعي من حيث دلالته على الحكم بالنسبة للمكلف ،قد يكون من الواضح، وهو أنواع منه ما هو "ظاهر" ومنه ما هو "نص" ، وقد يكون مبهماً يحتاج إلى تفسير ،وقد يكون عاما أو خاصاً أو عاماً أريد به الخصوص .......إلخ مما هو مقرر عند علماء أصول الفقه.
وهذا التراث العلمي الهائل والدقيق لا يمكن تجاوزه بتجاهله أو بالتقليل من أهميته ،فبه: تفهم النصوص ويستدل على المعاني ويدفع التعارض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم!
وبسبب الجهل به يحصل الخطأ،وتفهم النصوص على غير مرادها الصحيح،وقد حذر الله في كتابه من الجدال بغير أسس ثلاث "العلم والهدى والكتاب المنير" قال الله :
ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منير الحج : 8 .
ومن هنا حذر العالم المحدث الخليفة الراشد عمر الفاروق رضي الله عنه ،إذ تخوف من تأويل النصوص دون دراية وعلم،فقال : ( ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ،ولا من فاسقٍ بينٍ فسقه ،ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ،ثم تأوله على غير تأويله)جامع بيان العلم وفضله
ومكمن الخطورة أن هذا التأويل الغير منضبط بالقواعد العلمية المعتبرة - والذي هو محض تصور عقلي للنص - ،يتحول إلى حكم شرعي يتعبد الله به ،وقد يكون له لوازمه المتعدية !
ومن درس وتأمل التاريخ الفكري للفرق والطوائف الإسلامية التي حادت عن ما كان عليه رسول الله وأصحابه ،أو غلت في اتخاذ بعض المواقف العقدية أو تبنت بعض الأفكار المنحرفة أو الضالة ،مما جعلها شذوذاً بين الأمة ،نجد أنها لم تؤت ولم تقع فيما وقعت فيه " في الجملة" إلا من جهة هذين النوعين من الجهل – والله أعلم – فعدلوا بالنصوص عن ظواهرها وتأولوا الآيات لتوافق أهوائهم ،لا لتكون هي الحاكمة على كل هوى ورأي! وما خبر الخوارج أو الجهمية أو الشيعة وغيرهم ..ببعيد!!
ومنهم أقوام وصفوا بكثرة العبادة والاجتهاد وسلامة المقصد في الظاهر وإرادة الخير ، إلا أن الجهل وعدم التعلم أوردهم المهالك،والمعصوم من عصمه الله ..والمقصد الشريف لابد لتحقيقه من وسيلة مشروعة شريفة كذلك ،والوسيلة هي العلم والعمل ،والغاية في الإسلام لا تبرر خطأ الوسيلة ، والتوفيق بيد الله.
(1)